كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



وقرىء بإمالة الراء من {رَأْىَ} نحو الكسرة وفتح الهمزة وعدم إمالتها، وروي إمالتهما وإمالة الهمزة دون الراء على تفصيل فيه في النشر فليراجع {وَصَدَقَ الله وَرَسُولُهُ} الظاهر أنه داخل في حيز القول فجوز أن يكون عطفًا على جملة {هذا مَا وَعَدَنَا} الخ أو على صلة الموصول وهو كما ترى، وأن يكون في موضع الحال بتقدير قد أو بدونه.
وأيًا ما كان فالمراد ظهر صدق خبر الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم لأن الصدق محقق قبل ذلك والمترتب على رؤية الأحزاب ظهوره، وجوز أن يكون المعنى وصدق الله تعالى ورسوله عليه الصلاة والسلام في النصرة والثواب كما صدق الله تعالى ورسوله في البلاء، والإظهار مع سبق الذكر للتعظيم ولأنه لو اضمر وقيل وصدق جاء الجمع بين الله تعالى وغيره في ضمير واحد والأول تركه أو قيل وصدق هو ورسوله بقي الإظهار في مقام الإضمار فلا يندفع السؤال كذا قيل، وحديث الجمع قد مر ما فيه {وَمَا زَادَهُمْ} أي ما رأوا المفهوم من قوله تعالى: {وَلَمَّا رَأَى المؤمنون} الخ ورجوع الضمير إلى المصدر المفهوم من {رَأْىَ} يعكر عليه التذكير، وأرجعه بعضهم إلى الشهود المفهوم من ذلك، وجوز رجوعه إلى الوعد أو الخطب والبلاء المفهومين من السياق أو الإشارة.
وقرأ ابن أبي هبلة {وَمَا زَادُوهُمْ} بضمير الجمع العائد على الأحزاب {إلاَّ إيمَانًا} بالله تعالى وبمواعيده عز وجل: {وَتَسْليمًا} لأوامره جل شأنه وإقداره سبحانه، واستدل بالآية على جواز زيادة الإيمان ونقصه.
ومن أنكر قال: إن الزيادة فيما يؤمن به لا في نفس الإيمان والبحث في ذلك مشهور وفي كتب الكلام على أبسط وجه مسطور.
{منَ المؤمنين} أي المؤمنين بالاخلاص مطلقًا لا الذين حكيت محاسنهم خاصة {رجَالٌ} أي رجال {صَدَقُوا مَا عاهدوا الله عَلَيْه} من الثبات مع الرسول صلى الله عليه وسلم والمقاتلة للإعداء، وقيل: من الطاعات مطلقًا ويدخل في ذلك ما ذكر دخولًا أوليًا، وسبب النزول ظاهر في الأول.
أخرج الإمام أحمد ومسلم والترمذي والنسائي وجماعة عن أنس قال: غاب عمى أنس بن النضر عن بدر فشق عليه وقال: أول مشهد شهده رسول الله صلى الله عليه وسلم غبت عنه لئن أراني الله تعالى مشهدًا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما بعد ليرين الله تعالى ما أصنع فشهد يوم أحد فاستقبله سعد بن معاذ رضي الله تعالى عنه فقال: يا أبا عمرو أين؟ قال: واهًا لريح الجنة أجدها دون أحد فقاتل حتى قتل فوجد في جسده بضع وثمانون من ضربة وطعنة ورمية ونزلت هذه الآية: {مّنَ المؤمنين رجَالٌ صَدَقُوا مَا عاهدوا الله عَلَيْه} وكانوا يرون إنها نزلت فيه وأصحابه.
وفي الكشاف نذر رجال من الصحابة أنهم إذا لقوا حربًا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ثبتوا وقاتلوا حتى يستشهدوا أي نذروا الثبات التام والقاتل الذي يفضي بحسب العادة إلى نيل الشهادة وهم عثمان بن عفان وطلحة بن عبيد الله وسعيد بن زيد بن عمرو بن نفيل وحمزة ومصعب بن عمير وغيرهم.
وعن الكلبي ومقاتل إن هؤلاء الرجال هم أهل العقبة السبعون أهل البيعة، وقال يزيد بن رومان: هم بنو حارثة والمعول عليه عندي ما قدمته، ومعنى {صَدَقُوا} أتوا بالصدق من صدقني إذا قال الصدق، ومحل {مَا عاهدوا} النصب إما على نزع الخافض وهو في وايصال الفعل إليه كما في قولهم صدقني سن بكرة على رواية النصب أي في سن بكره والمفعول محذوف والأصل صدقوا الله فيما عاهدوه، وإما على أنه هو المفعول الصريح.
وجعل ما عاهدوا عليه بمنزلة شخص معاهد على طريق الاستعارة المكنية وجعله مصدوقًا تخييل وعلى الإسناد المجازي {فَمنْهُمْ مَّن قضى نَحْبَهُ} تفصيل لحال الصادقين وتقسيم لهم إلى قسمين، والنحب على ما قال الراغب النذر المحكوم بوجوبه يقال: قضى فلان نحبه أي وفى بنذره.
وقال أبو حيان: النذر الشيء الذي يلتزمه الإنسان ويعتقد الوفاء قال الشاعر:
عشية فر الحارثيون بعدما ** قضى نحبه في ملتقى القوم هوبر

وقال جرير:
بطخفة جالدنا الملوك وخيلنا ** عشية بسطام جرين على نحب

أي على أمر عظيم التزم القيامة به.
وشاع قضى فلان نحبه بمعنى مات إما على أن النحب مستعار استعارة تصريحية للموت لأنه كنذر لازم في رقبة كل إنسان والقرينة حالية والقضاء ترشيح، وأما على أن قضاء النحب مستعار له.
وجوز أن يراد بالنحب في الآية النذر وأن يراد الموت، وقال بعض الأجلة يجوز أن يكون مستعارًا لالتزام الموت شهيدًا أما بتنزيل التزام أسبابه التي هي أفعال اختيارية للناذر منزلة التزام نفسه، وإما بتنزيل نفسه منزلة أسبابه وإيراد الالتزام عليه وهو الأنسب بمقام المدح، وجعله استعارة للموت لأنه كنذر لازم مسخ للاستعارة وإذ هاب برونقها وإخراج للنظم الكريم عن مقتضى المقام بالكلية انتهى، وفيه منع ظاهر كما لا يخفى على المنصف.
والذي يقتضيه ظاهر بعض الأخبار أن النحب هنا بمعنى النذر وقضاؤه أداؤه والوفاء به، فقد أخرج ابن أبي عاصم والترمذي وحسنه وابن جرير والطبراني وابن مردويه عن طلحة أن أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم قالوا لأعرابي جاهل: سله عمن قضى نحبه من هو؟ وكانوا لا يجترؤون على مسألته يوقرونه ويهابونه فسأله الأعرابي ثم إني اطلعت من باب المسجد، فقال: أين السائل عمن قضى نحبه؟ قال الأعرابي: أنا قال: هذا ممن قضى نحبه.
وأخرج ابن منده وابن عساكر عن أسماء بنت أبي بكر قالت: دخل طلحة بن عبيد الله على النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا طلحة أنت ممن قضى نحبه، وأخرج الحاكم عن عائشة نحوه.
وأخرج الترمذي وغيره عن معاوية أنه قال: سمعت رسول الله عليه الصلاة والسلام يقول: طلحة ممن قضى نحبه، وكأن عليًا كرم الله تعالى وجهه عني مدحه بذلك في قوله وقد قيل له حدثنا عن طلحة: ذاك أمرؤ نزل فيه آية من كتاب الله {فَمنْهُمْ مَّن قضى نَحْبَهُ وَمنْهُمْ مَّن يَنتَظرُ} وقد أخرج ذلك عنه كرم الله تعالى وجهه أبو الشيخ وابن عساكر؛ وكان رضي الله تعالى عنه قد ثبت يوم أحد حتى أصيبت يده، وإلى حمل النحب على حقيقته ذهب مجاهد فالمعنى منهم من وفي بعهده وأدى نذره {وَمنْهُمُ} أي وبعضهم {مَّن يَنتَظرُ} يومًا فيه جهاد فيقضي نحبه ويؤدي نذره ويفي بعهده، ومن حمل ما عاهدوا الله تعالى على العموم وأبقى النحب على حقيقته قال: المعنى منهم من وفي بعهود الإسلام وما يلزم من الطاعات ومنهم من ينتظر الحصول في أعلا مراتب الإيمان والصلاح، واستشكل إبقاء النحب على حقيقته لأن وفاء النذر عين صدق العهد فيكون مآل المعنى من المؤمنين رجال عاهدوا الله تعالى وصدقوا أي فعلوا ووفوا بما عاهدوا الله تعالى عليه فمنهم من فعل ووفى بما عاهد، وفيه تقسيم الشيء إلى نفسه، ويشكل على هذا المعنى قوله تعالى: {وَمنْهُمْ مَّن يَنتَظرُ} لأن المنتظر غير واف فكيف يجعل قسمًا من الذين صدقوا أي وفوا.
وأجيب بأن المراد بالصدق في الآية مطابقة النسبة الكلامية للنسبة الخارجة وهذا الكلام المتضمن لهذه النسبة هو ما اقتضاه عهدهم على الثبات من نحو قولهم: لئن أرانا الله مشهدًا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم لنثبتن ولنقاتلن، واتصاف الخبر بالصدق وكذا المخبر به لا يقتضي أكثر من مطابقة نسبته للواقع في أحد الأزمنة فنحو يقوم زيد صادق وكذا المخبر به وقت الأخبار به وإن كان وقوع القيام بعد ألف سنة مثلًا، وكذا نحو إن كانت الشمس طالعة فالنهار موجود صادق وإن كان التكلم به ليلًا فهؤلاء الرجال لما أخبروا عن أنفسهم إنهم أن أراهم الله تعالى مشهدًا مع رسوله عليه الصلاة والسلام ثبتوا وقاتلوا وعلم سبحانه أن هذا مطابق للواقع أخبر تعالى عنهم بأنهم صدقوا ثم قسمهم عز وجل إلى قسمين قسم أدى ما أخبر عن نفسه أنه يؤديه وقسم ينتظر وقتًا يؤديه فيه، ولا يتصف هذا القسم بالكذب إلا إذا مات وقد أراه الله تعالى ذلك ولم يؤد، ومن أخبر الله تعالى عنهم بالصدق ما ماتوا حتى أدوا فلا إشكال.
نعم الإشكال على تقدير أن يراد بالصدق فيما عاهدوا تحقيق العهد فيما أظهروه من أفعالهم كما فسره الراغب ويراد من قضاء النحب وفاء النذر أو العهد كما لا يخفى، وقيل: المراد بصدقهم المذكور مطابقة ما في ألسنتهم لما في قلوبهم على خلاف المنافقين الذين يقولون بأفواههم ما ليس في قلوبهم ولا إشكال في التقسيم حينئذ.
وقيل: الصدق بالمعنى المشهور بين الجمهور إلا أن المراد بصدقوا يصدقون، وعبر عن المضارع بالماضي لتحقق الوقوع، وكلا القولين كما ترى.
وعن ابن عباس أن نافع بن الأزرق سأله عن قوله عالى: {قضى نَحْبَهُ} فقال: أجله الذي قدر له فقال: وهل تعرف العرب ذلك؟ قال: نعم أما سمعت قول لبيد:
ألا تسألان المرء ماذا يحاول ** أنحب فيقضي أم ضلال وباطل

وأخرج جماعة عنه أنه فسر ذلك بالموت، وروي نحوه عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما، وعليه لا مانع من أن يراد بصدقوا ما عاهدوا الله عليه كما ذكر عن الراغب حققوا العهد فيما أظهروه من أفعالهم، فيكون المعنى من المؤمنين رجال عاهدوا الله تعالى على الثبات والقتال إذا لقوا حربًا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وحققوا ذلك وثبتوا فمنهم من مات ومن منهم من ينتظر الموت، والذي يقتضيه السياق أن المراد قضى نحبه ثابتًا بأن يكون قد استشهد كانس بن النضر.
ومصعب بن عمير، ويحتمل أن يراد ما أعم من ذلك فيدخل من مات بعد الثبات حتف انفه قبل نزول الآية إن كان هنالك من هو كذلك، وعدوا ممن ينتظر عثمان وطلحة وأول ما ورد في طلحة من أنه ممن قضى نحبه بأن المراد أنه في حكم من استشهد، وأوجبوا ذلك فيما أخرج سعيد بن منصور وأبو يعلى وابن المنذر وأبو نعيم وابن مردويه عن عائشة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «من سره أن ينظر إلى رجل يمشي على الأرض قد قضى نحبه فلينظر إلى طلحة» وأخرج ابن مردويه من حديث جابر بن عبد الله مثله.
وفي إرشاد العقل السليم عن عائشة بلفظ «من سره أن ينظر إلى شهيد يمشي في الأرض، وقد قضى نحبه فلينظر إلى طلحة» وفي مجمع البيان عن أبي اسحق عن علي كرم الله تعالى وجهه أنه قال: نزلت فينا {رجَالٌ صَدَقُوا مَا عاهدوا الله عَلَيْه} الآية وأنا والله المنتظر، وفي وصفهم بالانتظار المنبىء عن الرغبة في المنتظر شهادة حقه بكمال اشتياقهم إلى الشهادة، وقيل: إلى الموت مطلقًا حبا للقاء الله تعالى ورغبة فيما عنده عز وجل: {وَمَا بَدَّلُوا تَبْديلًا} عطف على {صَدَقُوا} وفاعله أي وما بدلوا عهده وما غيروه تبديلًا ما لا أصلًا ولا وصفا بل ثبتوا عليه راغبين فيه مراعين لحقوقه على أحسن ما يكون، أما الذين قضوا فظاهر، وأما الباقون فيشهد به انتظارهم أصدق شهادة، وتعميم عدم التبديل للفريق الأول مع ظهور حالهم للإيذان بمساواة الفريق الثاني لهم في الحكم، وجوز أن يكون ضمير {بَدَّلُوا} للمنتظرين خاصة بناء على أن المحتاج إلى البيان حالهم، وفي الكلام تعريض بمن بدل من المنافقين حيث ولوا الادبار وكانوا عاهدوا لا يولون الأدبار فكأنه قيل: وما بدلوا تبديلًا كما بدل المنافقون فتأمل جميع ذاك والله تعالى يتولى هداك.
{لّيَجْزىَ الله الصادقين} أي الذين صدقوا ما عدوا الله تعالى عليه {بصدْقهمْ} أي بسبب صدقهم، وصرح بذلك مع أنه يقتضيه تعليقه الحكم بالمشتق اعتناء بأمر الصدق، ويكتفى بما يقتضيه التعليق في قوله تعالى: {وَيُعَذّبَ المنافقين} لأنه الأصل ولا داعي إلى خلافه، والمراد ويعذب المنافقين بنفاقهم {إن شَاء} أي تعذيبهم {أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهمْ} أي فلا يعذبهم بل يرحمهم سبحانه إن شاء عز وجل كذا قيل، وظاهره أن كلا من التعذيب والرحمة للمنافقين يوم القيامة ولو ماتوا على النفاق معلق بمشيئته تعالى.
واستشكل بأن النفاق أقبح الكفر كما يؤذن به قوله تعالى: {إنَّ المنافقين في الدرك الاسفل منَ النار} [النساء: 5 14] وقد أخبر عز وجل أنه سبحانه يعذب الكفرة مطلقًا حتمًا لا محالة فكيف هذا التعلق.
وأجيب أنه لا إشكال فإن الله جل جلاله لا يجب عليه شيء والتعليق لذلك فهو جل شأنه إن شاء عذب المنافق وإن شاء رحمه لكن المتحقق أنه تبارك وتعالى شاء تعذيبه ولم يشأ رحمته فكأنه قيل: إن شاء يعذب المنافقين في الآخرة لكنه سبحانه شاء تعذيبهم فيما أو يتوب عليهم إن شاء لكنه جل وعلا لم يشاء، ورفع مقدم الشرطية الثانية في مثل هذه القضية ينتج رفع التالي، وإنما لم تقيد مجازاة الصادقين بالمشيئة كما قيد تعذيب المنافقين والتوبة عليهم بها مع أنه تعالى إن شاء يجزي الصادقين وإن شاء لم يجزهم لمكان نفي وجوب شيء عليه تعالى لمجموع أمرين هما تحقق مشيئة المجازاة وكون الرحمة مقصودة بالذات بخلاف العذاب، وكأنه سبحانه لهذا الأخير لم يقل ليثيب أو لينعم وقال سبحانه في المقابل: {ويعذب} وقال بعض الأجلة: إن التوبة عليهم مشروطة بتوبتهم ومعنى توبته تعالى على العباد قبول توبتهم فكأنه قيل: أو يقبل توبتهم إن تابوا، وحذف الشرط لظهور استلزام المذكور له، ويجوز أن تفسر توبته تعالى عليهم بتوفيقه تعالى إياهم للتوبة إليه سبحانه، وكلا هذين المعنيين لتوبته تعالى وارد كما في القاموس، وأيًا ما كان فالأمر معلق بالمشيئة ضرورة أنه لا يجب عليه سبحانه قبول التوبة ولا التوفيق لها، والمراد من تعليق تعذيب المنافقين بالمشيئة أنه تعالى إن شاء عذبهم بإبقائهم منافقين وإن شاء سبحانه لم يعذبهم بأن يسلب عنهم وصف النفاق بالتوفيق إلى الإخلاص في الإيمان.
قال ابن عطية: تعذيب المنافقين ثمرة إقامتهم على النفاق وموتهم عليه والتوبة موازنة لتلك الإقامة وثمرتها تركهم بلا عذاب فهناك أمران: إقامة على النفاق.
وتوبة منه وعنها ثمرتان تعذيب ورحمة فذكر تعالى على جهة الإيجاز واحدة من هاتين وواحدة من هاتين ودل ما ذكر على ما ترك ذكره، ويدلك على أن معنى قوله تعالى: {لّيُعَذّبَ} ليديم على النفاق قوله سبحانه: {إن شَاء} ومعادلته بالتوبة وحرف {أَوْ} انتهى، وأراد بذلك حل الإشكال، وكأن ما ذكره يؤل إلى أن التقدير ليقيموا على النفاق فيموتوا عليه إن شاء فيعذبهم أو يتوب عليهم فيرحمهم فحذف سبب التعذيب وأثبت المسبب وهو التعذيب وأثبت سبب الرحمة والغفران وحذف المسبب وهو الرحمة والغفران وذلك من قبيل الاحتياك، قال في البحر: وهذا من الإيجاز الحسن، وقال السدى: المعنى ويعذب المنافقين إن شاء أن يميتهم على نفاقهم أو يتوب عليهم بنقلهم من النفاق إلى الإيمان، وكأنه جعل مفعول المشيئة الإماتة على النفاق دون التعذيب كما هو الظاهر لما سمعت من استشكال تعليق تعذيبهم بالمشيئة مع أنه متحتم، وقيل لذلك أيضًا: إن المراد يعذبهم في الدنيا إن شاء أو يتوب عليهم فلا يعذبهم فيها، وحكى هذا عن الجبائي والكلام عليه في غاية الظهور، وقد يقال: المراد بالمنافقين الجماعة المخصوصون القائلون.
{مَّا وَعَدَنَا الله وَرَسُولُهُ إلاَّ غُرُورًا} [الأحزاب: 12] على أن ذلك كالاسم لهم فلا يلاحظ فيه مبدأ الاشتقاق ولا يجعل علة للحكم بل العلة له ما يفهم من سياق الكلام فيكون المعلق بالمشيئة تعذيب أناس مخصوصين ويكون المعنى يعذب فلانًا وفلانًا مثلًا إن شاء بأن يميتهم سبحانه مصرين على ما هم عليه مما يقتضي التعذيب أو يتوب عليهم بأن يوفقهم للتوبة فيرحمهم، ويجوز أن يراد بالصادقين نحو هذا وحينئذ يكون قوله سبحانه: {يصدقهم} تصريحًا بما يفهم من السياق، ويفهم من كلام شيخ الإسلام أن ذكر الصدق وحده من باب الاكتفاء حيث قال في معنى الآية: ليجزي الله الصادقين بما صدر عنهم من الأقوال والوفاء قولًا وفعلًا ويعذب المنافقين بما صدر عنهم من الأعمال والأقوال المحكية، قيل: ولم يقل في جانب المنافقين بنفاقهم لقوله سبحانه: {شَاء أَوْ يَتُوبَ} الخ فإنه يستدعي فعلًا خاصًا بهم فتأمل، والظاهر أن اللام في {ليَجْزىَ} للتعليل، والكلام عند كثير تعليل للمنطوق من نفى التبديل عن الذين صدقوا ما عاهدوا الله عليه والمعرض به من إثبات التعريض لمن سواهم من المنافقين فإن الكلام على ما سمعت في قوة وما بدلوا تبديلًا كما بدل المنافقون فقوله: {ليَجْزىَ وَيُعَذّبَ} متعلق بالمنفى والمثبت على اللف والنشر التقديري، وجعل تبديل المنافقين علة للتعذيب مبني على تشبيه المنافقين بالقاصدين عاقبة السوء على نهج الاستعارة المكنية والقرينة إثبات معنى التعليل، وقيل: إن اللام للعلة حقيقة بالنظر إلى المنطوق ومجازًا بالنظر إلى المعرض به ويكون من باب الجمع بين الحقيقة والمجاز وقد جوزه من جوزه.
وقيل: لا يبعد جعل {ليَجْزىَ} الخ تعليلًا للمنطوق المقيد بالعرض به فكأنه قيل: ما بدلوا كغيرهم ليجزيهم بصدقهم ويعذب غيرهم إن لم يتب، وأنه يظهر بحسن صنيعهم قبح غيره، وبضدها تتبين الأشياء، وقيل: تعليل لصدقوا وحكى ذلك عن الزجاج، وقيل: لما يفهم من قوله تعالى: {وَمَا زَادَهُمْ إلاَّ إيمَانًا وَتَسْليمًا} [الأحزاب: 22] وقيل: لما يستفاد من قوله تعالى: {وَلَمَّا رَأَى المؤمنون الاحزاب} [الأحزاب: 22] كأنه قيل: ابتلاهم الله تعالى برؤية ذلك الخطب ليجزي الآية، واختاره الطيبي قائلًا: إنه طريق أسهل مأخذًا وأبعد عن التعسف وأقرب إلى المقصود من جعله تعليلًا للمنطوق والمعرض به.
واختار شيخ الإسلام كونه متعلقًا بمحذوف والكلام مستأنف مسوق بطريق الفذلكة لبيان ما هو داع إلى وقوع ما حكى من الأقوال والأفعال على التفصيل وغاية كما في قوله تعالى: {لّيَسْأَلَ الصادقين عَن صدْقهمْ} [الأحزاب: 8] كأنه قيل: وقع جميع ما وقع ليجزي الله الخ، وهو عندي حسن وإن كان فيه حذف فتأمل ذاك والله تعالى يتولى هداك {إنَّ الله كَانَ غَفُورًا رَّحيمًا} أي لمن تاب، وهذا اعتراض فيه بعث إلى التوبة. اهـ.